كان الوقت عصر رمضان ، والطائرة في جو السماء ، غير مزدحمة بالمسافرين .
ولدى قيامي للوضوء شاهدت إحدى المضيفات قابعةً في مقعدٍ جانبي ، وليس حولها كثرةٌ من الركاب .
رأيتها وقد حملته بكفَّيها ، مهتمةً به غاية الاهتمام ، حتى إنها لم تشعر بمروري بجوارها .
لقد
راحت هذه المضيفة في رحلة إيمانية تتلو فيها القرآن الكريم ، مستثمرةً وقت
الفراغ في الطائرة ، لتأخذ نصيبها من القرآن في شهر القرآن .
كانت مني
نظرة خاطفة نحوها ، ولما بين يديها ، ولم أشأ أن أسترسل في نظراتي ، غير
أني لم أملك التوقف عن الاسترسال في تفكيري وتأملاتي .
عدتُ لمقعدي لأسجل في ذهني عدداً من الانطباعات ، التي يحسن أن أشرك فيها من يقرأ هذه الكلمات:
1/ إن الأصل في أهل الإسلام ذكوراً وإناثاً قربهم من الخير ومحبتهم له ، مهما تناءت بهم الأخطاء أو شطَّت بهم الأهواء .
فهذه
المضيفة برغم كون عملها متضمنٌ لأنواع من المخالفات الشرعية ، كالسفر بلا
محرم غالباً ، وكما يُطلب منها من التبرج والسفور ومخالطة الرجال والخضوع
معهم بالقول على وجه يجرها وإياهم إلى أنواع المآثم ، برغم ذلك كله إلا أن
نبتة الخير في قلبها لا زالت مُورِقة ، وزهرة الهدى ما برحت متفتحة ، وإن
أصابها ما أصابها من لفح السموم والعطش .
2/
إننا أهل السنة والجماعة لندرك صفاء منهجنا ومتابعتنا فيه لرسولنا صلى
الله عليه وسلم في النظر لمثل هذه الوقائع ، فهذه المضيفة مطيعة لله
بطاعاتها ، عاصيةٌ لله بمعاصيها ، وهكذا عموم أصحاب المعاصي من أهل القبلة
، فلا نكفِّرُ أحداً بذنب ما لم يستحله ، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص
بالمعاصي .
3/
إن المسلمين والمسلمات مهما اقترفوا من الذنوب والخطايا فلا ينبغي أن
تسيطر عليهم أفكار القنوط ومشاعر سوء الظن بالله تعالى ، فالناس ـ ما خلا
الأنبياء ـ غير معصومين ، ولا بد من الزلل ، والعبد مأمورٌ بالاستقامة ،
وإذا زلَّ فتجب عليه التوبة ، وينبغي ألا يقمع نفسه بمنعها من الخير ،
بحجة أنها مذنبة خاطئة .
4/
إن هذه المضيفة ـ وأمثالها كثير ـ ليوضح حالها عظم الجناية في حقها من قبل
واضعي الأنظمة ومخططي السياسات العامة في عالمنا الإسلامي .
فلو أن
المنظرين لأنظمة العمل والدراسة والتدريب لاحظوا القواعد الشرعية في سنِّ
الأنظمة في تلك المجالات ، لما كان لهذه المضيفة أن تزجَّ بنفسها في هذا
المجال الموحش .
لكن البلية التي تأثر بها عالمنا الإسلامي : أن
معظم الأنظمة تم استيرادها من دول غير إسلامية ، تخالفنا في شرائعها
وثقافاتها وأخلاقياتها ، وتم تعميم تلك الأنظمة على مختلف المجالات
الحياتية ، ولم يسلم من هذا الاتجاه إلا أجزاء يسيرة ، اصطلحوا على
تسميتها بالأحوال الشخصية .
ونتيجة لهذا البلاء فقد انتشر تقنين كثير
من الأمور المخالفة للشرع ، فسُنَّت الأنظمة الممكنة للرِّبا ، وأوجدت
الأنظمة الممكنة من الاختلاط في مجال الدراسة والعمل ، وافتتحت المعاهد
التي تعلم النساء فنون التبرج والسفور وألوان الفحش والرقص تحت مسمى الفن
، إلخ .
وإن هذه المضيفة للطيران ( التالية للقرآن ) لتعتبر واحدة
من ثمرات إجبار الأجيال على مخالفة شريعة الرحمن ، بإحواجها لطلب الرزق من
خلال أعمال ووظائف تخدش الكرامة وتخلُّ بالحياء .
ولو أن الأنظمة
التي سنَّها المنظرون لصناعة الطيران ـ مثلاً ـ استشعروا انتماءهم
الإسلامي لجعلوا عمل المرأة سالماً من الاختلاط والخلوة والتبرج والسفر
بلا محرم ، ومن غير هذا من المآثم ،،، ولكن !!.
وقل مثل ذلك في
مجالات أخرى ارتكب ويرتكب من خلالها ساسة التخطيط في عالمنا الإسلامي أعظم
أنواع الجرائم في حق شعوبهم ، بسبب فتنتهم لهم في دينهم ، عبر أنظمة
تحملهم على ركوب المآثم : ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )
[البقرة : 191]
تلك الأنظمة التي يجبر عليها المجتمع في مجالات شتى
، فيرفضها الجيل الأول ، لكن الأجيال اللاحقة تتفتق أفهامها عليها ، فعلى
تلك الأنظمة الجائرة يَشِبُّ الصغير ، ويهرم الكبير ، ويصير المنكر
معروفاً ، والفحش مألوفاً ، وهاهي وسائل الإعلام تنضح بالنماذج السيئة
التي تمارس مقدمات الفاحشة علناً عبر الشاشات ، ولا يتوانى الوسط الإعلامي
ـ في معظمه ـ عن اعتبار هؤلاء ( الفاحشيون ) نجوماً يروِّج لهم ، ويحسِّن
أفعالهم المنكرة !.
كيف حدث ذلك ؟.
إنها الأنظمة والقوانين
المحادة لشرع الله المطهر ، ذلك أن أفراد المجتمعات الإسلامية ذكوراً
وإناثاً لديهم القبول الكبير لترسم حدود الشرع المطهر ، لو أن بيئتهم
وتنظيماتهم كانت معينةً لهم على ذلك .
وإننا في المملكة العربية
السعودية لنحمد الله على نعمة تحكيم الشرع المطهر ، وإنَّ من شكر هذه
النعمة المحافظة على هذا المسلك ومنع الإخلال به من كل أحد ، والله
المستعان .