حكم التهنئة بدخول شهر رمضان..!
عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فهذا بحث مختصر حول : حكم التهنئة بدخول شهر رمضان ، حاولت أن أجمع فيه
أطرافه راجياً من الله –تعالى – التوفيق والسداد ، وفيه إجابة عن سؤال
السائل .
فأقول : قبل البدء بذكر حكم المسألة لا بد من تأصيل موضوع التهنئة .
فيقال : التهاني – من حيث الأصل – من باب العادات ، والتي الأصل فيها
الإباحة ، حتى يأتي دليل يخصها ، فينقل حكمها من الإباحة إلى حكم آخر .
ويدل لذلك – ما سيأتي – من تهنئة بعض الصحابة بعضاً في الأعياد ، وأنهم
كانوا يعتادون هذا في مثل تلك المناسبات .
ويقول العلامة السعدي – رحمه الله – مبيناً هذا الأصل في جواب له عن حكم
التهاني في المناسبات - كما في ( الفتاوى ) في المجموعة الكاملة لمؤلفات
الشيخ عبد الرحمن السعدي (348) : " هذه المسائل وما أشبهها مبنية على أصل
عظيم نافع ، وهو أن الأصل في جميع العادات القولية والفعلية الإباحة
والجواز ، فلا يحرم منها ولا يكره إلا ما نهى عنه الشارع ، أو تضمن مفسدة
شرعية ، وهذا الأصل الكبير قد دل عليه الكتاب والسنة في مواضع ، وذكره شيخ
الإسلام ابن تيمية وغيره . فهذه الصور المسؤول عنها ما أشبهها من هذا
القبيل ، فإن الناس لم يقصدوا التعبد بها ، وإنما هي عوائد وخطابات
وجوابات جرت بينهم في مناسبات لا محذور فيها ، بل فيها مصلحة دعاء
المؤمنين بعضهم لبعض بدعاء مناسب، وتآلف القلوب كما هو مشاهد .
أما الإجابة في هذه الأمور لمن ابتدئ بشيء من ذلك ، فالذي نرى أنه يجب
عليه أن يجيبه بالجواب المناسب مثل الأجوبة بينهم ؛ لأنها من العدل ، ولأن
ترك الإجابة يوغر الصدور ويشوش الخواطر .
ثم اعلم أن هاهنا قاعدة حسنة ، وهي : أن العادات والمباحات قد يقترن بها
من المصالح والمنافع ما يلحقها بالأمور المحبوبة لله ، بحسب ما ينتج عنها
وما تثمره ، كما أنه قد يقترن ببعض العادات من المفاسد والمضار ما يلحقها
بالأمور الممنوعة ، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً " ا.هـ كلامه ، وللشيخ
– رحمه الله – كلام في (منظومة القواعد) – كما في (المجموعة الكاملة
لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي 1/143) – يقرر فيه هذا المعنى ، وللمزيد
ينظر (الموافقات للشاطبي 2/212-246) ففــيـه بحوث موسعة حول العادات
وحكمها في الشريعة.
فإذا تقرر أن التهاني من باب العادات ، فلا ينكر منها إلا ما أنكره الشرع
، ولذا: مرّر الإسلام جملة من العادات التي كانت عند العرب ،بل رغب في
بعضها ، وحرم بعضها كالسجود للتحية .
وبعد هذه التوطئة يمكن أن يقال عن التهنئة بدخول الشهر الكريم : قد ورد في
التهنئة بقدومه بعض ا لأحاديث عن النبي – صلى الله عليه وسـلم – أذكر جملة
منها ، وهي أقوى ما وقفت عليه ، وكلها لا تخلو من ضعف ، وبعض أشد ضعفاً من
الآخر:
1- حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
: " أتاكم رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله – عز وجل – عليكم صيامه ، تفتح
فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين ،
لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم " . أخرجه النسائي (
4/129) ح (2106) ، وأحمد (2/230 ، 385، 425) من طرق عن أيوب ، عن أبي
قلابة – واسمه عبد الله بن زيد الجزمي – عن أبي هريرة –رضي الله عنه - .
والحديث رجاله الشيخين إلا أن رواية أبي قلابة عن أبي هريرة مرسلة ، أي أن
في الإسناد انقطاعاً ينظر : (تحفة التحصيل) لأبي زرعة العراقي ( 176) .
والحديث أصله في الصحيحين – البخاري (2/30) ح ( 1899) ، ومسلم (2/758)
ح(1079) – ولفظ البخاري : " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء ، وغلقت
أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " ، ولفظ مسلم : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب
الجنة- وفي لفظ ( الرحمة ) – وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين" .
2- حديث أنس – رضي الله عنه – قال : دخل رمضان ، فقال رسول الله – صلى
الله عليه وسلم - : " إن هذا الشهر قد حضركم ، وفيه ليلة خير من ألف شهر ،
من حرمها فقد حرم الخير كله ، ولا يحرم خيرها إلا محروم " . أخرجه ابن
ماجة ح(1644) من طريق محمد ابن بلال ، عن عمران القطان ، عن قتادة ، عن
أنس – رضي الله عنه - . وهذا الإسناد ضعيف لوجهين :
الوجه الأول : أن فيه محمد بن بلال البصري ، التمار.
قال أبو داود : ما سمعت إلا خيراً ، وذكره ابن حبان في (الثقات) ، وقال
العقيلي – في (الضعفاء 4/37) ترجمة ( 1584) - : " بصري يهـم في حديثه
كثيراً " ، وقال ابن عدي في ( الكامل 6/134) : " له غير ما ذكرت من الحديث
، وهو يغرب عن عمران القطان ، له عن غير عمران أحاديث غرائب ، وليس حديثه
بالكثير ، وأرجو أنه لا بأس به ".
وحديث الباب من روايته عن عمران ، فلعله مما أغرب به على عمران ، وقد لخص
الحافظ ابن حجر حاله بقوله في ( التقريب 5766) : " صدوق يغرب " .
الوجه الثاني : أن في سنده عمران بن داوَر ، أبو العوام القطان ، كان يحيى
القطان لا يحدث عنه ، وقد ذكره يوماً فأحسن الثناء عليه – ولعل ثناءه عليه
كان بسبب صلاحه وديانته ، جمعاً بين قوله وأقوال الأئمة الآتية ، لكن قال
أحمد: " أرجو أن يكون صالح الحديث " ، وقال مرة: " ليس بذاك " ، وضعفه ابن
معين ، وأبو داود ، والنسائي ، وقال الدارقطني : "كثير الوهم والمخالفة"،
وقد ذكره ابن حبان في (الثقات) . ينظر : ( سؤالات الحاكم للدارقطني 261
رقم 445)، ( تهذيب الكمال 22/329) ، ( الميزان 3/236) (موسوعة أقوال
الإمام أحمد في الرجال 3/121) ، وقال الحافظ بن حجر ملخصاً أقوال من سبق :
" صدوق يهم ، ورمي برأي الخوارج " كما في ( التقريب 5150)، وعمران هذا روى
الحديث عن قتادة ولم أقف له على متابع ، فهذا مظنة الضعف والغرابة .
وذكر الإمام البرديجي كلاماً قوياً يبين فيه حكم الأحاديث التي ينفرد فيها
أمثال هؤلاء الرواة عن الأئمة الحفاظ ،فيمكن أن ينظر : ( شرح العلل
2/679،654) لابن رجب، ونحوه عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/7) . وقتادة
بلا ريب من كبار الحفاظ في زمانه، وروى عنه جمعٌ كبير من الأئمة ، كما قال
الذهبي في ( السير 5/270) : " روى عنه أئمة الإسلام ، أيوب السختياني،
وابن أبي عروبة، ومعمر بن راشد ، والأوزاعي ، ومسعر بن كدام ، وعمرو بن
الحارث المصري وشعبة ... " ثم ذكر جملة منهم فأين هؤلاء من هذا الحديث ؟
3- حديث سلمان – رضي الله عنه – قال : خطبنا رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – في آخر يومٍ من شعبان ، فقال " أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم ، شهر
مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليله
تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن
أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر ،
والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة ، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن ، من فطر
فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من
غير أن ينتقص من أجره شيء " .
قالوا: ليس كلنا نجد ما يفطر الصائم ؟!، فقال : " يعطي الله هذا الثواب من
فطر صائماً على تمرة ، أو شربة ماء ن أو مذقة لبن ، وهو شهر أوله رحمة ،
وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه غفر الله له وأعتقه
من النار ، واستكثروا فيه من أربع خصال ، خصلتين ترضون بهما ربكم ،
وخصلتين لا غنى بكم عنهما ،فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم : فشهادة
أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه ، وأما اللتان لا غنى بكم عنها : فتسألون
الله الجنة ، وتعوذون به من النار ، ومن أشبع فيه صائماً سقاه الله من
حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة " . أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (3/191)
ح(1887).
قال ابن رجب (رحمه الله) في (اللطائف 279) : " هذا الحديث أصلٌ في تهنئة
الناس بعضهم بعضاً في شهر رمضان ". وإنما تأخر الاستدلال به على مسألتنا –
مع صراحته أكثر من غيره –؛ لأنه لم يثبت ،فقد سئل أبو حاتم عنه – ( العلل
) لابنه (1/249) – فقال : " هذا حديث منكر " ، وقال ابن خزيمة في الموضع
السابق : " إن صح الخبر " ، وقال ابن حجر في (إتحاف المهرة 5/561) : "
ومداره على علي بن زيد ، وهو ضعيف " .
وخلاصة تضعيف هؤلاء الأئمة لهذا الخبر تعود إلى أمرين :
- ضعف علي بن زيد .
- ومع ضعفه فقد تفرد به ، كما قال الحافظ بن حجر.
وبهاتين العلتين يتضح وجه استنكار أبي حاتم – رحمه الله –، وقد ذهب
الجمهور من الفقهاء إلى أن التهنئة بالعيد لا بأس بها ، بل ذهب بعضهم إلى
مشروعيتها ، وفيها أربع روايات عن الإمام أحمد – رحمه الله – ذكرها ابن
مفلح – رحمه الله – في (الآداب الشرعية 3/219)، وذكر أن ما روي عنه من
أنها لا بأس بها هي أشهر الروايات عنه .
وقال ابن قدامة في ( المغني 3/294) : " قال الإمام أحمد – رحمه الله- قوله
: ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد : تقبّل الله منا ومنك" ، وقال
حرب : "سئل أحمد عن قول الناس : تقبل الله منا ومنكم ؟ قال : لا بأس" ،
يرويه أهل الشام عن أبي أمامة ، قيل : وواثلة ابن الأسقع ؟ ، قال : نعم ،
قيل : فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد؟ قال : لا .."
فيقال : إذا كانت التهنئة بالعيد هذا حكمها ،فإن جوازها في دخول شهر رمضان
الذي هو موسم من أعظم مواسم الطاعات ، وتنـزل الرحمات ، ومضاعفة الحسنات ،
والتجارة مع الله ... من باب أولى ، والله أعلم .
ومما يستدل به على جواز ذلك أيضاً : قصة كعب بن مالك – رضي الله عنه-
الثابتة في الصحيحين من البشارة له ولصاحبه بتوبة الله عليهما ، وقيام
طلحة ( رضي الله تعالى عنه ) إليه .
قال ابن القيم – رحمه الله – ضمن سياقه لفوائد تلك القصة في ( زاد المعاد
3/585):"وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية ، والقيام
إليه إذا أقبل ومصافحته ، فهذه سنة مستحبة ، وهو جائز لمن تجددت له نعمة
دنيوية ، وأن الأوْلى أن يقال : يهنك بما أعطاك الله ، وما منّ الله به
عليك ، ونحو هذا الكلام ، فإن فيه تولية النعمة ربهّا ، والدعاء لمن نالها
بالتهني بها ". ولا ريب أن بلوغ شهر رمضان وإدراكه نعمة دينية ، فهي أوْلى
وأحرى بأن يُهنأ المسلم على بلوغها ، كيف وقد أثر عن السلف أنهم كانوا
يسألون الله – عز وجل – ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، وفي الستة الأخرى
يسألونه القبول ؟ ونحن نرى العشرات، ونسمع عن أضعافهم ممن يموتون قبل
بلوغهم الشهر .
وقال الحافظ بن حجر – رحمه الله - : " ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من
نعمة ، أو يندفع من نقمة : بمشروعية سجود الشكر ، والتعزية – كذا في
(الموسوعة الفقهية) التي نقلت عنها – وربما في الصحيحين عن كعب بن مالك ..
" نقلاً عن (الموسوعة الفقهية الكويتية ، 14/99-100) ، وينظر : (وصول
الأماني) للسيوطي، وقد بحثت عن كلام الحافظ في مظنته ولم أهتد إليه، وينظر
: (وصول الأماني 1/83) ( ضمن الحاوي للفتاوى ) .
خلاصة المسألة :
وبعد هذا العرض الموجز يظهر أن الأمر واسع في التهنئة بدخول الشهر ، لا يُمنع منها ،ولا ينكر على من تركها ، والله أعلم .
هذا ، وقد سألت شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز – رحمه الله – عنها، قال :
" طيبة "، وكذلكسألت شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله –
عن التهنئة بدخول شهر رمضان ، فقال : ( طيبة جداً )، وذلك في يوم الأحد
8/9/1416هـ حال بحثي في هذه المسألة .
وقد سئل العلامة الشنقيطي – رحمه الله – عن الصفة الشرعية للتهنئة برمضان
والمناسبات الأخرى كالعيدين ، فأجاب – رحمه الله – بجواب مطول خلاصته :
أنه لا يعلم صفة معينة في هذا الِشأن إلا ما ورد في العيدين – كما سبق
نقله – وأن الإنسان إذا اقتصر على الوارد كان أفضل ، لكن لو ابتدأه غيره
فلا حرج أن يجيبه من باب رد التحية بخير منها ، فلو اتصل الإنسان على أخيه
، أو زاره ، وقال له : نسأل الله أن يجعل هذا الشهر عوناً على طاعته ، أو
يعيننا وإياكم على صيامه وقيامه ، فلا حرج -إن شاء الله-؛ لأن الدعاء كله
خير وبركة لكن لا يلتزم بذلك لفظاً مخصوصاً ،ولا تهنئة مخصوصة . نقلاً من
شريط ( آداب الاستئذان )
أسأل الله – تعالى – أن ينفع بهذا البحث ، وما كان فيه من صواب، فإن كان
كذلك فمن الله وحده ، وإن أخطأت فأنا أهلٌ لذلك ، وأستغفر الله وأتوب إليه
، وأصلي على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.